المصالح والمفاسد في الاحتساب :
لقد جاءت الشريعة لتحقيق المصالح ودفع المفاسد ، كما تقدم تقريره ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبني على هذه القاعدة ، فينبغي للمحتسب الحكيم العناية بها عند الاحتساب .
وبعد التأمل فإنه يمكن حصر حالات المصلحة والمفسدة في الاحتساب على النحو التالي :
1- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب ولا توجد مفسدة ، فيحتسب هنا .
2- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع وجود مفسدة أقل ، فيحتسب هنا .
3- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع تفويت مصلحة أقل ، فيحتسب هنا .
4- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع تفويت مصلحة أعلى، فلا يحتسب هنا.
5- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع وجود مفسدة أعلى ، فلا يحتسب هنا.
6- أن لا تتحقق المصلحة من الاحتساب . بل تقع مفسدة ، فلا يحتسب هنا .
7- أن تندفع المفسدة الأقل مع وجود مفسدة أعلى ، فلا يحتسب هنا .
8- أن تندفع المفسدة الأعلى مع وجود مفسدة أقل . فيحتسب هنا .
9- أن يتساوى تحقيق المصالح والمفاسد ، وهنا يتوقف في الاحتساب إلى أن يتبين الراجح وإلا يعمل بقاعدة : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
والأمر في الجملة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أنه لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه . ويقول رحمه الله : (( وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد ، والحسنات والسيئات ، أو تزاحمت ؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته )) [الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص10-11)].
وتقدير المصالح والمفاسد راجع إلى اعتبار الشرع لها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام )) [الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص10)] وعلى هذا ينبغي للمحتسب التفقه في قضية المصالح والمفاسد حتى يقدم على الاحتساب بعلم وحكمة .
--------------------------------------------------------------------------------
تشترط قدرة الداعية في الاحتساب :
ومن المقرر في الشريعة أن التكليف يسقط بعدم الاستطاعة ، لقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) (البقرة: من الآية286) ، ولما كان الاحتساب من أشق التكاليف ومما يلحق صاحبه من جرائه الأذى كما قال لقمان لابنه في موعظته التي قصَّها القرآن : ( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ) (لقمان: من الآية17) فأمره بالصبر لأنه يلحقه الأذى بسببه ، ولذا اشترط في الاحتساب القدرة عليه على وجه مخصوص قال ابن العربي : (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين .. وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة عليه والأمن على النفس والمال معه )) [عارضة الأحوذي لابن العربي (9/11)] .
والأصل في هذا الشرط للاحتساب هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) ، فقد علَّق النبي صلى الله عليه وسلم الاحتساب على الاستطاعة ، وبحسبها تكون مرتبة الاحتساب ، تدرجاً من الأقوى إلى الأضعف ، فإن عجز الداعية عن الإنكار باليد انتقل إلى الإنكار باللسان فإن عجز عنه أنكر بقلبه .
وقد وضح الإمام الغزالي رحمه الله أنواع العجز المسقط لوجوب الحسبة ، ولعله أول من تناول هذه المسألة بالتفصيل والتوضيح ، وتتابع العلماء بعده شرحاً وتفصيلاً ونقداً، وأذكر فيما يلي مجمل هذه المسألة لأهميتها العظيمة للمحتسب ، فمن خلالها تتحدد قضية أخرى أخطر من ذلك وهي متى يجوز السكوت عن الإنكار ، فأقول :
العجز على نوعين : عجز حسي ، وهو أن يكون بالمسلم عاهة مانعة من الاحتساب ، أو يكون ضعيف البدن لا يستطيع الإنكار ؛ فهذا لا تجب عليه الحسبة لعجزه.
والنوع الثاني : ما يكون في معنى العجز ، وهو توقع حدوث مكروهٍ يناله من جراء الاحتساب ، وهذا فيه تفصيل سيأتي .
وتوقع المكروه إما أن يكون عن علم أو غلبة ظن فهذا المعتبر ، وإما أن يكون عن ظن مرجوح أو شك أو وهم ؛ فلا عبرة به ، فإن شك المسلم في حدوث الأذى واحتمل الحال أن يقع المكروه ، أو لا يقع ، ووقوعه أقل احتمالاً فلا عبرة حينئذٍ بذلك الظن المرجوح .
أما المكروه الذي يكون في معنى العجز ، فهذا المكروه إما أن يكون في النفس أو المال أو الجاه .
وإما أن يكون هذا المكروه راجعاً إلى خوف زوال الموجود منها أو راجعاً إلى امتناع ما هو منتظر مرغوب ، فأما امتناع ما هو منتظر فلا يكون مرخصاً لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لا ضرر في ذلك ، وكل الأمر أن هذا المنتظر المرغوب قد يقع فتحصل للشخص زيادة خير ، أو لا يقع فلا تحصل له تلك الزيادة ، وهذا لا يصلح أن يكون مانعاً من الإنكار على منكر موجود حقيقة والسكوت عنه ضرر موجود ، وذلك المنتظر شيء غير موجود وليس فيه مضرة .
أما زوال ما هو موجود منها فيمكن أن يكون مرخصاً لترك الاحتساب ، فلو غلب على ظن المحتسب أنه إن أنكر ضُرب ضرباً شديداً ، أو قتل أو سلب ماله وخربت داره ؛ فهذا يعذر بترك الاحتساب مع بقاء الاستحباب ، وإن كان الضرب يسيراً فلا يكون عذراً في سقوط الإنكار.
ولو وقع ذلك الضرر فيما يزيل المروءة فيرخص له في السكوت أيضاً لأن المحتسب مأمور بحفظ مروءته ، وأما إن كان ما يقع يسيراً كالتعرض له باللسان بالسب والشتم والغيبة ونحو ذلك فهذا لا يرخص له ، فقد فعل برسول الله صلى الاله عليه وسلم مثل ذلك وأكثر ولم يردّه ذلك ، وكما يقول الغزالي : (( ولو تركت الحسبة بلوم لائم ، أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله ؛ لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه )) [ الإحياء للغزالي (2/351)].
وهذا الرأي هو قول أكثر العلماء ، ورأى شيخ الإسلام ابن تيمية: التفصيل فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ، ويقابله حصول الأذى وهو محرم ، فيوازن حينئذٍ بينهما فيقصد تحصيل أعلى المصلحتين ، ويرتكب أخف الضررين .
وتظهر هنا مسألة : لو خاف الداعية من تعدي الضرر إلى غيره ، فما الحكم ؟
وذلك أن للمرء التنازل عن مصلحته أو حقه ، ولكن ليس له حق التنازل عن الآخرين ، والأدلة الشرعية تحرم إلحاق الأذى بالمسلم بأيِّ وجه .
والأصل في هذه المسألة أن على المحتسب أن يحرص على عدم إلحاق الضرر بغيره من جراء حسبته ، ولكن إن لم يمكن الاحتساب إلا مع وجود ضرر للآخرين ، فهنا يصار إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد فإن كان المنكر أكبر من ذلك الضرر الحاصل ولو كان على الآخرين ، فإنه يهون في سبيل الله كل شيء ، والداعية ليس هو المتسبب الرئيس في هذا الأذى ، وإنما قام بواجبه تجاه المنكر ، وإلحاق الأذى هو من تعدي صاحب المنكر وظلمه.
إلا إن كان المحتسب ضعيفاً ويعيش في موطن ظلم واضطهاد ، فإن حسبته حينئذٍ قد لا تنفع ويقع معها الضرر ، فلا حسبة حينذاك .